الکتاب عبارة عن بحث علمی لنیل شهادة بکلوریس من قبل المؤلف عام ٢٠٠٣ - ٢٠٠٤ و نشرة عام ٢٠٢٥ من قبل بورد التوعیة لی مکتب الاعلام والتوعی للاتحاد الوطنی الکوردستانی
الاعلام و الفن فی الثورة الجدیدة
“إعلام الاتحاد الوطني الكردستاني:
دراسة نموذجية
يأتي هذا الكتاب الموسوم بـ “الإعلام والفن في الثورة الجديدة” للكاتب والباحث عباس عبدالرزاق، بوصفه وثيقة تأريخية وفكرية ، تؤرّخ لمسار الإعلام الكردي الثوري وتحوّلاته العميقة بين العمل السرّي والممارسة العلنية، وتضع بين أيدينا قراءة تحليلية للمكانة التي شغلها الفن والإعلام داخل المشروع التحرري الكردي، لا كأدوات تابعة، بل كقوى فاعلة في تشكيل الوعي والمقاومة.
يناقش الكتاب، عبر فصوله السبعة، قضايا مركزية في تجربة الإعلام الكرديئئ: بدءًا من المطابع السرّية والمنشورات اليدوية، مرورًا بتجارب الراديو الثوري، ووصولًا إلى الفيلم الوثائقي الذي تحوّل إلى شهادة بصرية حية، تحمل عبء الحقيقة وتناهض النسيان. كما يُعنى بتوثيق العلاقة العضوية بين الفن (بأشكاله المختلفة: الشعر، الأغنية، المسرح، الرسم) وبين المعاناة الجماعية لشعب يواجه القمع والتشريد، ويجعل من الإبداع صرخةً، ومن الصوت ذاكرةً، ومن الصورة موقفًا.
لا ينطلق هذا العمل من خطاب تمجيدي أو أرشفة حيادية، بل من إيمان بأن الإعلام الثوري هو ضمير الجماعة وراوي سيرتها في لحظات الانكسار والنهوض، وهو أيضًا أداة بناء للمستقبل حين يكون منفتحًا على النقد، ومنغرسًا في هموم الناس، ومنقطعًا عن التبعية والانغلاق.
لقد قام المؤلف، بوصفه شاهدًا ومشاركًا في التجربة، بتوثيق وقائع عديدة عاشها أو التقى بصنّاعها، مما أضفى على النص حرارة التجربة وصدقية الصوت. ولذا، فإن هذا الكتاب لا يُقرأ فقط كتاريخ، بل كنداء مفتوح لاستعادة دور الإعلام الحرّ، ولإعادة التفكير في مسؤولية الفن تجاه قضايا الشعوب، في زمنٍ أصبحت فيه الحقيقة نفسها موضوعًا للصراع.
نضع هذه الخلاصة بالغة العربية بين يدي القارئ العربي والباحثين في ميادين الإعلام، والتاريخ المعاصر، والدراسات الكردية، آملين أن تُسهم في إغناء النقاش حول الإعلام المقاوم، وتفتح أفقًا لفهم أعمق لعلاقة الكلمة بالصوت، والفن بالحرية، والتوثيق بالكرامة الإنسانية.
في زمنٍ ترى فيه كثيرًا من الأفلام تُصنّف على أنها وثائقية، بينما لا تتعدى كونها تسجيلات بسيطة بوسائل تصوير عادية، أصبح من الضروري العودة إلى المصادر الأولى للفيلم الوثائقي في سياق الثورة الكردية.
الإعلام الكردي، بعد انتفاضات ما بعد المصادر الأولى، بدأ يتحرك بشكلٍ منهجي، مستندًا إلى الراديو، والمطابع، والصحف، والوسائط السمعية البصرية. وظهر تأثيره على الواقع. كنتُ أحد المشاركين في صناعة الأفلام في ذلك العصر، حيث رافقت الكاميرا لأول مرة قوات البيشمركة في الجبال.
وبسبب أهمية ذلك، حاولتُ أن أوثق مختلف أوجه الموضوع، مستندًا إلى المصادر والمقابلات مع من شاركوا في التجربة، ووضعتُ هذا التوثيق ضمن الفصول التالية:
1. الأرشيف والمادة الوثائقية
2. أهمية الراديو
3. الأدب والفن في سياق الثورة
آمل أن تساهم هذه الدراسة في توسيع آفاق البحث في الإعلام الكردي المعاصر.
ما هو الفيلم الوثائقي؟
الفيلم الوثائقي هو ذاك الذي يركّز على الحقيقة، ويُعرض فيه أشخاص حقيقيون وأحداث وقعت فعلًا. أهميته لا تكمن فقط في الطريقة الفنية للتصوير، بل في كونه يسعى لتوثيق وقائع مباشرة.
لذا فإن الفيلم الوثائقي، بحسب التخصصات، ينقسم إلى: سياسي، اجتماعي، علمي، تربوي، تاريخي…
هدفه الرئيس هو الإخبار، التوثيق، التعليم، التوعية.
يقول فرانك جيمس بيپۆر في ترجمته لبيژن أشته ري:
“الفيلم الوثائقي أداة لرفع الوعي وتوسيع الفهم”.
الفصل الأول
المطابع والمنشورات
منذ تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني (ي.ن.ك)، لعب الإعلام دورًا حيويًا في مسيرته. في البداية اقتصر على الراديو وبعض النشرات السرية التي كانت تُطبع بوسائل بدائية للغاية، ومع الوقت تطورت هذه الأدوات لتشمل مطابع متنقلة ومنشورات متنوعة.
فيما يلي مراحل تطور الإعلام المكتوب والمنشورات الخاصة بالحركة، وتقسيمها بحسب الجغرافيا والسنوات:
1. إعلام كوملە: 1970 - 1975
نشطت منشورات حركة كوەملە في محافظات مثل بغداد، كركوك، والسليمانية، بعضها كُتب يدويًا أو طُبع باستخدام آلات بسيطة. أحيانًا كانت تستفيد الحركة من مطابع الحزب الديمقراطي الكردستاني.
رغم الاضطرابات الأمنية، نُشرت العديد من المنشورات السياسية والتنظيمية، منها:
• كوردستاني لينيني (ماركسي كوەملە - 1970)
• مقالة تحليلية حول تأميم النفط في العراق (1970)
• بيان حول كارثة قەدزێ واستشهاد مجموعة من الرفاق
• منشورات حول ضرورة الدفاع عن كوردستان
2. إعلام (ي.ن.ك) في الخارج: 1975 - 1991
بعد اتفاقية الجزائر عام 1975، انتقل العديد من كوادر (ي.ن.ك) إلى الخارج، وخاصة سوريا وأوروبا. نُشرت هناك أولى البيانات الرسمية، منها:
• البيان التأسيسي للاتحاد الوطني (دمشق 1975)
• سلسلة من البيانات باللغات الكردية والعربية والفارسية والإنكليزية
• مجلة “الشرارة” (الشعلة) التي كانت تصدر من دمشق، ثم لاحقًا بلغات متعددة (فرنسية، ألمانية، إنكليزية)

3. إعلام (ي.ن.ك) في المدن الكردية: 1975 - 1976
بعد القمع الذي تبع انتفاضة 1975، بدأ بعض الكوادر في طباعة منشوراتهم في البيوت وبشكل سري داخل المدن الكردية مثل السليمانية وقامشلو وبنچوين. تم إنشاء مطبعة بسيطة داخل مرآب في السليمانية، وشارك فيها العديد من البيشمركة والمثقفين، مثل:
• آوات قاره‌مانی
• شوانه (الشهيد شماڵ)
• آزاد (آرام، سوارە)
• ملا سعيد، و‌آخرون
وكانت هذه المطبعة تُنقل بين المنازل كلما اشتد خطر مداهمة الأجهزة الأمنية.
4. مطبعة الشهيد إبراهيم عەزو المركزية: 1976 - 1991
كانت هذه من أهم المراحل في تطور الإعلام الثوري، حيث تم تأسيس أول مطبعة مركزية شبه مستقرة في المناطق الجبلية. بدأ العمل بها بإشراف عدد من الكوادر أبرزهم:
• حسن كريم (المعروف بحمه سعيد)
• سيروان
• مجيد أنور (ملازم سابق في جيش البعث)
• سالار عزيز
وقد ساهمت هذه المطبعة في إصدار أهم المجلات والبيانات التي واكبت النضال الميداني والعسكري، مثل:
• “ئه‌فای شه‌ورش” (صوت الثورة)
• بيانات حول معارك قەره‌داغ، قنديل، وسەقز
5. مطابع سرية متنقلة
استخدمت الحركة مطابع بدائية محمولة، منها:
• آلة كاتبة صغيرة داخل صندوق
• جهاز رونيو يدوي
وكانت هذه الأدوات تُنقل باستمرار من قرية إلى أخرى، حسب الظروف الأمنية.
من أبرز المناطق التي احتضنت هذه المطابع: قنديل، گوڵپە، گوڕباز، ته‌نگیسەر.
وكانت منشوراتها تُوزع عبر شبكة البيشمركة على القرى والجبال والمدن المحررة.
الفصل الثاني
الراديو والفيلم الوثائقي
في ظل انعدام الصحافة الحرة وتضييق النظام، أصبح الراديو وسيلة استراتيجية لنقل صوت الثورة إلى الشعب، فيما مثّل الفيلم الوثائقي أداة لتوثيق النضال وتوعية الجماهير داخل وخارج كردستان.
1. أهمية الراديو
منذ منتصف السبعينيات، أولى الاتحاد الوطني الكردستاني أهمية كبيرة للراديو كوسيلة إعلام جماهيري.
استُخدم الراديو لبثّ:
• البيانات العسكرية والسياسية
• الرسائل الموجهة إلى المدن والقرى
• الأغاني الثورية لتحفيز الروح القومية
كانت الإذاعة تُدار غالبًا من مواقع سرّية في الجبال، أُنشئت في ظروف بالغة التعقيد، وشكّلت صوتًا مقاومًا للنظام الحاكم.
2. الفيلم الوثائقي كسلاح معرفي
الفيلم الوثائقي ليس مجرّد شريط مصوّر، بل وسيلة تحليل وتأريخ.
خلافًا للفيلم الروائي، يُركّز الفيلم الوثائقي على الواقع، ويُصور:
• البيشمركة أثناء المعارك
• حياة اللاجئين والمُهجّرين
• التخريب والجرائم التي ارتكبها النظام
وقد تمّ إنتاج أول الأفلام الوثائقية الكردية في ظروف قاسية، بكاميرات يدوية، وغالبًا دون مونتاج أو أدوات تقنية.
3. خصائص الفيلم الوثائقي
بحسب فرانك جيمس بيپۆر، فإن الفيلم الوثائقي:
“ليس سردًا فقط، بل تحليلٌ بصري للواقع”.
ويضيف المفكر آلان بارت أن الفيلم الوثائقي يجب أن:
• يتفاعل مع الحدث مباشرة
• يعتمد لغة الصورة بدلًا من الخطابة
• يُحفز المتفرج على التساؤل والمشاركة
4. دور الفيلم الوثائقي في بناء الوعي السياسي
من أبرز أدوار الوثائقي الكردي:
• فضح سياسات النظام ضد الشعب الكردي
• تأريخ المجازر مثل الأنفال وقصف حلبجة
• تقوية الانتماء القومي بين أوساط الشعب
وقد استُخدم الفيلم الوثائقي في المحافل الدولية كدليل حيّ على الجرائم المرتكبة، بل وصل الأمر أن بعض اللقطات أصبحت أدلة في المحاكمات الدولية.
5. الوثائقي والراديو في خدمة الذاكرة الجماعية
حين تُمنع الكتب، وتُغلق الصحف، يصبح الصوت والصورة الوسيلة الوحيدة لحفظ الذاكرة.
فالفيلم يوثق، والراديو يُبثّ، وكلاهما يُشاركان في صناعة ما يسميه بعض الباحثين “الذاكرة الثورية السمع-بصرية”.
وبذلك، لم يكن الإعلام مجرد أداة مرافقة للثورة، بل أحد عناصرها الفاعلة في بناء الهوية، وتحصين المجتمع، ومخاطبة العالم.
الفصل الثالث
الأدب والفن في سياق الثورة
لم تكن الثورة الكردية نضالًا سياسيًا وعسكريًا فقط، بل كانت أيضًا ثورة ثقافية وإبداعية. في خضم الظروف القاسية، لعب الأدب والفن دورًا حيويًا في ترسيخ المعنى، وتغذية الوجدان الجمعي، وتثبيت الهوية الكردية في مواجهة محاولات المحو والطمس.
1. الشعر المقاوم
ظهر جيل جديد من الشعراء الذين مزجوا بين الجبل والقصيدة، والسلاح والكلمة.
كانوا يُبدعون من قلب المعاناة، ومن داخل الخنادق والكهوف والقرى المحاصرة.
شعرهم لم يكن غنائيًا فقط، بل حاملًا لقيم النضال والحرية والكرامة.
أهم سمات هذا الشعر:
• الالتصاق المباشر بالتجربة الثورية
• استلهام مفردات الطبيعة: الجبال، الشتاء، النار، البيشمركة
• استخدام الرموز السياسية والإيديولوجية بلغة وجدانية
2. الرواية والكتابة السردية
رغم صعوبة الطباعة والنشر، برزت محاولات سردية مهمة توثق:
• الهروب من المدن
• قصص الأسرى والمناضلين
• حياة القرى المحروقة والنازحين
هذه الكتابات لم تُنشر حينها دائمًا، لكنها تداولت بين الكوادر والمثقفين، وبعضها نُشر لاحقًا بعد 1991.
3. الرسم والتصوير
بعض الفنانين حملوا الريشة كما حَمَل الآخرون البندقية.
وثّقوا مشاهد الحرب، المعاناة، البيشمركة، الشهداء، وحلبجة باللون والخطوط.
كذلك ساهمت الصور الفوتوغرافية والتصميمات اليدوية في التعبئة الإعلامية.
4. الأغنية الثورية والمسرح الجبلي
الغناء كان حاضنًا روحيًا للمقاتلين والشعب على حد سواء.
بُثّت الأغاني عبر الراديو، أو سُمعت في الجبهات، وكانت:
• تُلهب المشاعر، وتؤرشف اللحظة
• تؤدي وظيفة سياسية وتربوية
أما المسرح، فرغم ندرته، سُجلت محاولات في القرى والمخيمات لعرض أعمال ذات طابع سياسي – ساخر، باستخدام أدوات بسيطة وأداء جماعي، غالبًا بدون خشبة.
5. الفن الثوري بوصفه شهادة حيّة
لم يكن الفن في هذا السياق ترفًا، بل ضرورة، و”شهادة” حيّة على ما يجري.
وكما يُقال: “حين تصمت السياسة، يتكلم الفن”.
لهذا، حافظ الفن الكردي في تلك المرحلة على طابعه الجماهيري، القريب من الناس، الحامل لقضاياهم، والناطق باسمهم.
الفصل الرابع
السينما الوثائقية والتعليم السياسي
في قلب التجربة الثورية الكردية، لم تكن السينما مجرد وسيلة فنية، بل تحوّلت إلى أداة مركزية للتعليم السياسي والتعبئة الجماهيرية، خصوصًا من خلال الشكل الوثائقي، الذي ارتبط عضوياً بالواقع والذاكرة والوعي.
1. وظيفة الفيلم الوثائقي في التثقيف السياسي
كان هدف الأفلام الوثائقية الكردية هو:
• توعية الناس بحقوقهم
• فضح ممارسات الأنظمة القمعية
• رفع مستوى الفهم السياسي والوطني
ولأنها كانت تُنتج غالبًا في الجبال، فإنها كانت خالية من الإبهار التقني، لكنها صادقة، حيّة، ومباشرة.
الفيلم لم يكن فقط “يحكي” الثورة، بل كان امتدادًا لها.
2. الفيلم كوثيقة وشهادة
أصبحت العديد من الأفلام الوثائقية بمثابة:
• وثائق قضائية تُستخدم كأدلة في المحاكمات الدولية
• شهادات تاريخية تُدرّس في الأوساط الأكاديمية
• مادة أرشيفية تُعرض في معارض ومهرجانات دولية
الفيلم الوثائقي الكردي لم يُنتج لغايات فنية بحتة، بل لأداء شهادة أمام التاريخ.
3. الجمهور كجزء من العملية السينمائية
في التجربة الثورية الكردية، لم يكن المتلقي متفرجًا سلبيًا.
الجمهور (البيشمركة، الناس، المهجّرين) كانوا جزءًا من الفيلم:
• يظهرون أمام الكاميرا
• يتحدثون بلغتهم ولهجتهم
• يُعبّرون عن وعيهم ومطالبهم
وبذلك، تجاوز الفيلم مفهوم “الإخراج” الكلاسيكي، وتحول إلى عملية جماعية تفاعلية.
4. التأثير على الإعلام العالمي
بعض الأفلام الوثائقية التي خرجت من جبال كردستان وصلت إلى أوروبا وأمريكا، وشاركت في:
• مهرجانات دولية لحقوق الإنسان
• جلسات الأمم المتحدة لتوثيق الانتهاكات
• قنوات تلفزيونية ناطقة بعدة لغات
وكان حضور هذه الأفلام حاسمًا في تشكيل رأي عام عالمي متعاطف مع القضية الكردية.
5. ضرورة دعم السينما الوثائقية اليوم
تُشير تجارب الثمانينات والتسعينات إلى أن:
“لا ثورة بلا توثيق، ولا توثيق بلا استقلال فني وسياسي.”
ومن هنا تبرز الحاجة في الزمن الراهن إلى دعم هذا النوع من السينما، وتوفير:
• أرشفة رقمية للمادة المصورة القديمة
• تمويل مستقل لإنتاج أفلام جديدة
• تشبيك بين المخرجين الكرد والجهات العالمية الداعمة للسينما البديلة
الفصل الخامس
تطور الإعلام الكردي بين السرّية والعلنية
مرّ الإعلام الكردي خلال العقود الماضية بمراحل متباينة بين العمل السرّي القائم على الطباعة اليدوية والإذاعة المتنقلة، والعمل العلني الذي بدأ بعد الانتفاضة وامتد إلى تأسيس المؤسسات الرسمية.
هذا الفصل يُتابع التحولات الأساسية في بنيته ووظائفه بين السرية والعلنية.
1. الإعلام السري: ضرورة ثورية
في مرحلة السبعينيات والثمانينيات، كان الإعلام الكردي يعمل في ظروف بالغة الصعوبة:
• النشرات كانت تُطبع سرًّا في البيوت أو الجبال
• الكوادر كانت تُلاحق وتُعتقل بسبب حيازة ورقة واحدة
• الكاميرات كانت تهرَّب إلى الداخل بوسائل معقدة
لكن هذه السرّية خلقت نوعًا من الالتزام العميق لدى العاملين في الإعلام، وجعلت من كل جملة وصورة وفيلم فعلًا مقاومًا.
2. المطبعة كأداة نضال
لم تكن المطبعة مجرد أداة إنتاج، بل كانت:
• مركزًا فكريًا وتعبويًا
• ملتقى للنقاشات والتنظير
• منبرًا لتوحيد الخطاب الثوري
كل منشور كان يُمرّر من يد إلى يد، وقد يستغرق وصوله أسابيع، لكنه كان يحمل قوة تفوق أحيانًا طلقة بندقية، لأنه يُحرّك الوعي.
3. من التهريب إلى البث العلني
بعد الانتفاضة في التسعينيات، تغيّر المشهد:
• تأسست إذاعات رسمية مثل “راديو كوردستان”
• ظهرت قنوات تلفزيونية ناطقة بالكردية
• أصبحت الصحف تصدر علنًا وبترخيص
لكن هذا التحول من السرّية إلى العلنية لم يكن بلا ثمن، إذ ظهرت تحديات جديدة تتعلق بالتمويل، الرقابة، والخطاب الإعلامي.
4. جدلية الحرية والمسؤولية
في الإعلام العلني، ظهرت الأسئلة التالية:
• كيف نضمن حرية التعبير في ظل التبعية الحزبية؟
• كيف نحافظ على استقلالية الصحفي؟
• هل أصبح الإعلام أداة بيد السلطة بدلًا من أن يكون رقابتها؟
وهكذا، لم تعد السرّية هي المشكلة، بل فقدان الحرية داخل العلنية نفسها.
5. الحاجة إلى إعلام نقدي وثوري جديد
تُشير التجربة التاريخية إلى أهمية بناء إعلام:
• غير تابع، غير محايد زائف، وغير مُروّج
• يتعامل مع المواطن كفاعل، لا كمتلقٍ
• يمزج بين تقنيات العصر وروح الالتزام الثوري
فالتحديات تغيرت، لكن المهمة واحدة: بناء وعيٍ يُقاوم النسيان والتشويه والتبعية.
الفصل السادس
التأريخ الإعلامي عبر الوثيقة والصوت
إذا كانت الثورة تُصنع بالبندقية، فإن ذاكرتها تُصنع بالقلم والكاميرا والميكروفون.
لقد لعب الإعلام الكردي الثوري، لا سيما في شقه الوثائقي والسمعي، دورًا مركزيًا في تثبيت الأحداث والتجارب التي تعرّضت للمحو أو التزييف المتعمد.
1. الوثيقة كأداة ضد النسيان
الوثيقة – سواء كانت بيانًا، صورة، فيلمًا، أو شريطًا صوتيًا – شكلت جدار الصد الأول في وجه محاولات محو الحقيقة.
في السياق الكردي، الوثيقة:
• أرّخت للمجازر والتهجير القسري
• سجّلت أصوات القادة والمقاتلين والشهداء
• قدّمت سردية بديلة للخطاب الرسمي المهيمن
ولهذا، سعت الأنظمة إلى محو هذه الوثائق أو شيطنتها أو التشكيك في صحتها.
2. الصوت كشهادة حيّة
في عالم تُقيد فيه الكلمة المكتوبة، يُصبح الصوت مجالًا حرًّا للبوح والاحتجاج.
من خلال التسجيلات الصوتية، تمكّن النشطاء من:
• بث بيانات عاجلة من ساحات القتال
• تسجيل قصائد وقصص ثورية
• إجراء مقابلات مع القادة والمقاتلين في الجبال
وكان لهذه الأشرطة أثر تعبوي كبير، إذ كان الصوت يصل إلى ما لا تصل إليه الصورة أحيانًا.
3. تجربة الأرشفة في ظروف استثنائية
لم يكن من السهل حفظ الوثائق والأشرطة.
غالبًا ما كانت تُخبأ في:
• كهوف الجبال
• قاع الصناديق
• جدران المنازل أو حتى داخل أدوات المطبخ
البعض دُفِن تحت الأرض، وبعضه فُقِد في المعارك أو خلال حملات الأنفال. ومع ذلك، نجا قدر كبير منه ليشكّل اليوم نواة الأرشيف الوطني غير الرسمي.
4. الحاجة إلى أرشفة رقمية حديثة
في الوقت الراهن، يبرز التحدي الكبير:
كيف نحافظ على الذاكرة الثورية في زمن النسيان الرقمي والتشويه المؤسساتي؟
تتمثل الحاجة في:
• رقمنة الوثائق الصوتية والمصورة
• توثيق الشهادات الشفهية
• تأسيس منصات رقمية مستقلة لحفظ وإتاحة هذه الذاكرة
ليس فقط لحماية التاريخ، بل لتوفير أداة نضال جديدة للجيل القادم.
5. بين التأريخ الرسمي والذاكرة البديلة
ينبغي التمييز بين:
• التأريخ الرسمي الذي تكتبه السلطة وفق روايتها
• والذاكرة الشعبية التي يصوغها المناضلون والفنانون والشهداء بأجسادهم وأصواتهم
وفي هذا المعنى، فإن الوثيقة الثورية ليست مجرد سجل، بل موقف أخلاقي، وفعل وجودي في وجه الإنكار والنسيان.
الفصل السابع
خاتمة: الإعلام الثوري كضمير حيّ
ليس الإعلام الثوري ترفًا، ولا مجرد وسيلة لنقل الخبر.
بل هو ضمير الجماعة حين تُغلق الصحف، وعين الثورة حين تُحاصر الكاميرا، ولسان المقهورين حين يُخنق الصوت.
وقد أثبت الإعلام الكردي خلال عقود النضال، رغم ظروفه القاسية، أنه كان في قلب المواجهة، لا على هامشها.
1. من السرّية إلى الفعل المؤسس
رغم أن الإعلام الكردي بدأ من السراديب والكهوف، فإنه نجح في أن:
• يوثّق مراحل الثورة بدقة
• يخلق خطابًا مقاومًا بديلًا عن سردية العدو
• يؤسّس لأرشيف شعبي لا تملكه الدولة، بل الناس
لقد تحوّل الإعلام من أداء “وظيفة” إلى تجسيد “رسالة”.
2. التحديات التي تواجه الإعلام الكردي اليوم
مع الانتقال إلى العلنية والمؤسساتية، ظهرت مخاطر جديدة:
• التبعية الحزبية وغياب الاستقلالية
• تسليع الخطاب الثوري وتحويله إلى شعارات
• تناقص روح التضحية لصالح الوظيفة والمهنة
وبدل أن يكون الإعلام وسيلة لإنتاج وعي نقدي، أصبح في بعض الحالات وسيلة للتضليل أو التبرير.
3. نحو إعلام كردي نقدي ومعاصر
إنّ استعادة روح الإعلام الثوري لا تعني العودة إلى السرّية، بل تعني:
• الالتزام بالعدالة والحرية بوصفهما أساس الخطاب
• الاستقلال عن السلطات، أكانت حزبية أو رسمية
• الانفتاح على أدوات العصر دون التفريط بالجوهر
نحن بحاجة إلى إعلام لا يروي الحكاية فقط، بل يصنعها، لا يكرّر الماضي بل يتأمّله، لا يجمّل الواقع بل يكشفه ويعيد تشكيله.
ختامًا…
هذا الكتاب محاولة أولية، لا تدّعي الإحاطة الكاملة، بل تسعى إلى فتح باب النقاش حول معنى الإعلام الثوري، وتاريخه، وأفقه.
آمل أن يكون هذا الجهد لبنة في بناء ذاكرة إعلامية حقيقية، حيّة، ومتجددة، تحفظ دم الشهداء، وتحمل همّ الأحياء، وتخاطب أمل القادمين

بابەتی زیاتر

Copyright © 2024. Hoshyary.com. All right reserved